أدب المجتمع

الزجل الفلسطيني .. الحمام الزاجل الناقل للرسائل المقدسة – سارة السهيل

وسط لهيب النيران، وعلى إيقاع طلقات الرصاص المنطلق، بسواعد المقاومة الباسلة في فلسطين العربية المحتلة بمختلف فصائلها، يبدو أن كتاب الزجل الفلسطيني يستعد لفتح فصل جديد، بسطور من نور ونار، وبمداد الدماء الزكية للشهداء الأبرار، ليسطر سير الأبطال المحاربين، ليستلهم منهم جيل فلسطيني قادم روحا جديدة، تحمل عبء المسئولية وشرف النضال المقدس، من أجل تحرير الأرض المقدسة.

.. ولمن يسمع عنه لأول مرة !، فإن الزجل الفلسطيني كان ولازال إحدى وسائل المقاومة الثقافية التي أبقت الوعي العروبي حيا لأبناء الأرض المحتلة، خالصة للأجيال التي تلت عصر النكبة.

النساء هن الوصيات على التراث الشفهي الفلسطيني، وبالإضافة إلى دورهن في تغذيةالجوانب الرومانسية للمقاومة، فإنهن يساهمن أيضًا في تعميم الصور النمطية الذكورية فقط مثل سامر وشوبا والزهار. أصواتهم تصل إلينا الآن صرخة، ونأمل أن تعود الموسيقى قريباً، قبل أن تفنى الأرض وأهلها.

وبلغ تألق «الزجل الفلسطيني» ذروته ما بين الخمسينات والستينات والسبعينات من القرن الماضي.. وبحلول أوائل الألفية الجديدة، بدأ بريقه في الأفول تدريجيا.. لكن جذوته لم تنطفئ في ضمائر المبدعين بالأرض المحتلة، ومازالت مفرداته حاضرة في فعاليات المهرجانات الثقافية العربية، وبخاصة مهرجانات الشعر.

أنشودة شدو بعضكم يا أهل فلسطين

(شدوا بعضكم يا أهل فلسطين.. شدوا بعضكم، ما ودعتكم، ما ودعتكم، رحلت فلسطين، ما ودعتكم، على ورق صينى لأكتب بالحبر على ورق صينى، يا فلسطين، على اللىجرى لك يا فلسطين)..

تلك الانشودة التي تغنت بها حليمة سليمان الكسواني غادرت قريتها «بيت إكسا» في محافظة القدس عندما كانت في العاشرة من عمرها. تعيش في مخيم الزرقاء بالأردن منذ عام 1961. ومع ذلك، تذكرت تفاصيل حول الأرض والجغرافيا. وجارتها ومعلمتها واسم شيخ القرية (الجزار) كانت تردد تلك الأغاني القديمة التي تتلو اللحن الذي كان هو نفسه في كل بيت، وكان يسمى «ترويت» لأنه يكرر نفس اللحن. شيء مثل ألحان الصاح يتعلق بأسلوب ميل، وهو أسلوب ينسب إلى وسط فلسطين وجنوبها

وتاريخ هذا النوع من التراث الشعبي يعبر بعمق عن تاريخ البلاد، فهو كسائر الأغاني الشعبية يتميز بالبساطة والعفوية مما يسمح له بالاستمرار لقرون، فهو قادر على استيعاب الكلمات والمصطلحات الجديدة، ويسجل الأحداث والمواقف لأنه يستجيب لاحتياجات الناس في لحظات محددة. ويقول الباحثون إنه من الصعب تحديد متى ظهرت هذه الأغنية المليئة بالحزن والشوق والحب بالضبط، لكن من المرجح أن أصولها تعود إلى نهاية العصر العثماني وبداية الانتداب البريطاني. اخترع الفلسطينيون تغريدات تحتوي على كلمات مشفرة قد تبدو في بعض الأحيان وكأنها تعويذات غير مفهومة لخداع المستعمرين البريطانيين وجعلهم قادرين على تمرير الرسائل بين المعتقلين وعائلاتهم، أو بين السجناء والمقاتلين القادمين لتحريرهم. اعتمد السرد على لغة جديدة تتضمن قلب الكلمة، وترك الحرف الأخير سليمًا، أو قلبه دون إسقاطه.

وفي هذه الفترة بدأ نضال المرأة الفلسطينية، عام 1932، والتي مارست الكفاح المسلح. وكان لها بدور في القتال، وبناء على الوعي وجمع التبرعات، غادرت المجال الاجتماعي إلى ساحة المعركة. وبعد سنوات طويلة، تأسست في يافا جمعية «زهرة الأقحوان»، التي تحولت في عامي 1947 و1948من جمعية نسوية اجتماعية وخيرية إلى حركة مقاومة عسكرية نشطة.

في مثل هذا الجو الصعب المتصاعد في فلسطين، كان من الطبيعي أن تغنى الترويدةمن قبل النساء المتميزات. من خلاله، عبرت النساء والفتيات عن مشاعرهن بالحب وانخراطهن في المقاومة في المجتمع المحافظ.

بعض سكان المخيم لا يزالوا يستخدمون هذه اللغة المشفرة، كما يعتمد فنانون فلسطينيون مثل الراحلة ريم البنا وغيرها من الفنانات المميزات على هذا التقليد الشفهي، ونحن نسعى جاهدين للحفاظ على تراثناوإحيائه. بالإضافة إلى الغناء، قامت بجمع وتأليف الترانيم القديمة منذ مسيرتها المهنيةفي عام 2003. إنها تتولى المهام التي تتطلب وكالات متخصصة بنفسها. وفي قرية بتير، بالقرب من بيت لحم، اكتشف ترنيمة مريمية وترنيمة بدوية تلقاها من امرأة جليلية ماتتقبل سنوات عديدة. ولذلك، فإنه يحاولالتمسك بذاكرة المتحدث. فكما أن ما لم يُكتب في الكتاب لا يُبطله انتصار المنتصر، كذلك لا يختفي النشيد. كما هو الحال مع الموسيقىالساحلية، اختفت بعد النكبة مع مقتلالصيادين، لكن كان من الصعب الاستمرار علىهذا النمط المرتبط بالعمل البحري بعد الإخلاء.

سجلت أبيات الزجل الفلسطيني ما عجزت كثير من كتب التاريخ أن تسجله من ملامح الوجدان العروبي في هذه البقعة المباركة من أرض المشرق العربي.

مبكرا جداً اتخذ المقاوم الفلسطيني من الشعر والزجل سلاحا له يواجه به قوى الاستعمار الغاشم، حيث عبرت أبياته التلقائية عن التمسك بالأرض حتي بعد تهجير كثير من أهلها قسريا، أو حكمهم بالاحتلال الصهيوني لاحقا.

أما عبر التاريخ الحديث، فقد شهد الزجل الفلسطيني تطورًا كبيرًا في ظل الأحداث السياسية والاجتماعية التي شكلت حياة الشعب الفلسطيني، بالتزامن مع مراحل معاصرة من النضال الفلسطيني ضد المستعمر الصهيوني، كما في المواجهات التاريخية للمقاومة مثل «معركة الفرقان» عام 2008، ومثل طوفان الأقصي في السابع من أكتوبر بعامنا الحالي.. والتي ستشكل وحدها جانبا كبيرا من الوعي العروبي والفلسطيني ومصدر إلهام للأديب والزجال الفلسطيني الساعي لاستنشاق عبير الحرية ولو بعد حين، ومهما كان الثمن.

وفقا لمراجع التاريخ، تعود جذور فن الزجل بشكل عام إلى الأندلس في زمان خضع لحكم الأسرة «الموحدية» امتداد لممالك الحشاشين والقرامطة والفاطميين، فارسية الأصل، شكلت جزءا من التاريخ الإسلامي في عصوره الوسيطة وصولاً الى بلاد الشام.

ويوصف الزجل بأنه نوع من الشعر العامي الارتجالي غير المتقيد بقواعد اللغة، كالإعراب وصيغ المفردات، يمكن نظمه بأوزان البحور الشعرية قديمة، أو المشتقة منها، وكثيرا ما تصاحبه إيقاعات موسيقية شعبية، تزيده بريقا والتصاقا بالأذن والقلب والذاكرة.

أصل كلمة «التطريب بالصوت».. مصحوباً بإيقاع لحني بمساعدة بعض الآلات الموسيقية.. وللزجل أطياف متعددة من القوالب الموسيقية والغنائية والأوزان المتنوعة، مع اختلاف طرق النظم والصياغة.

يعتبر الزجل الفلسطيني جزءًا لا يتجزأ من التراث الشعبي الفلسطيني، وبه تم توثيق الكثير من أبواب تراثه من قصائد ومجموعات شعرية وحتي الكتب، ما يجعله معينًا لا ينضب لفهم الثقافة الشعبية والتاريخ الفلسطيني.

وبنظرة أكثر تدقيقا، لهوية الطبعة الاستثنائية من ذاك الإبداع الشرقي، نجد أن الزجل الفلسطيني نوع من الشعر الشعبي التقليدي، تميز بقوة التعبير والعاطفة والروح الوطنية.

كما امتلك جذورًا عميقة في تاريخ وثقافة الشعب الفلسطيني، وقد تم تطويره وتناقلته الأجيال واحدًا تلو الآخر في صورة مدونة أحيانًا، أو شفاهة أحيانًا اخرى.. يوصف بأنه تقليد حي يُعبَّر عنه بالعربية العامية، يتسم بالتلقائية.. ومع أنه لا يتّبع القواعد النحوية للغة العربية الفصحى، إلّا إن له أعرافه الخاصة.

وهو لغة خاصة يعبر بها المبدع الفلسطيني عن آماله وأحلامه وذكرياته وهمومه، عن الحب والهجر والمعاناة الإنسانية بشكل عام.. وكثير من أبيات الزجل أصبحت مخصصة لاحتفالات الخطبة والزفاف، يشتهر بأدائها فنانون وفنانات متخصصات في أداء هذا اللون الإبداعي الشعبي ذي الخصوصية الشامية والفلسطينية تحديدا..

يتنوع في قوالبه، ما بين «السياسي» المقاوم للاستعمار.. إلى «الرومانسي» بشاعرية رصينة، متمسكة بطابع الحشمة في التعبير عن الحب والمشاعر الدافئة.

وعلى الرغم من التحديات الكبرى التي واجهها، ويواجهها الشعب الفلسطيني، وتأثيرها على الثقافة والفن، إلا أن الزجل استمر نابضا بالحياة، مواكبا لمستجدات الأحداث، حيث واصل الشعراء المعاصرون إبداعهم وتجديد الزجل بأساليب ومواضيع تتناسب مع الزمان والمكان الحاليين.

واستمرارًا لاستخدام الزجل للتعبير عن قضايا الهوية والانتماء والثقافة الفلسطينية.. واصل أدباء فلسطين، خط منظومات الزجل بروح معاصرة، مع الحفاظ على الأصالة ممثلة في أبجديات التراث الشعبي، حرصا منهم على دور الزجل ورمزيته التي تتسع لأبعد من حدود الكلمات، لتوثيق تاريخ الشعب الفلسطيني.

وهكذا عبر عقود وعقود، أثرت الأحداث السياسية والاجتماعية في الأدب الفلسطيني عامة، وفي «الزجل» خاصة، في فترة الانتفاضة الفلسطينية في الثمانينات والتسعينات، انتشر الزجل كوسيلة لتوحيد الشعب وزيادة الوعي الوطني، ورمزًا للهوية والصمود والمقاومة.

وكتب الشعراء الفلسطينيون قصائد تعبر عن الغضب والصمود والأمل في تحقيق الحرية والاستقلال.

في فلسطين، تمتلك كل مدينة ومحافظة طابعًا ثقافيًا فريدًا، وهو ما يخلق تنوعا وثراء متجددا وفق كل قطاع من الأراضِ الفلسطينية..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى