أدب الأماكن

كاتدرائية نوتردام تاريخ من الصمود

 

 تجرع مثقفو العالم ومبدعيه مرارة احتراق كاتدرائية نوتردام، فهذه المرارة التي شعرت بها شعوب العالم ترجع الى اعتبار ان الكاتدراية معلم ثقافي اوروبي انساني، فهي ليست ملكا للجمهورية الفرنسية او الثقافة الاوربية فحسب، بل ملك للانسانية جميعا.

فهذه الكاتدرائية التي شيدت قبل 854 عاما  التي  تمثل ذاكرة انسانية تحفظ منجز حضاري وثقافي لفن المعمار القوطي في العصور الوسطى، بجانب قيمتها الدينية لاخواننا المسيحين في الشرق، حيث تعرف لدينا نحن العرب  باسم”سيدتنا العذراء”، وما تحمله السيدة مريم من مكانة لدى المسلمين والمسيحين في اقطارنا العربية من رموز للقدسية والطهارة.

في هذه الكاتدرائية يمتزج التاريخ وحضارة فن المعمار بالمقدسات، وهو ما يضفي عليها اهمية ثقافية ودينية  خاصة لدى العالم، إكليل الشوك، الذي يعتقد المسيحيون أنه وضع على رأس يسوع المسيح خلال صلبه، وكذلك  “الصليب الحقيقي”، أي الصليب الذي تم صلب المسيح عليه.

وقد اجتمع لهذا لمبني الخالد كل مقومات الابداع والبقاء والخلود بدءا من اطلالته على نهر السين بقلب باريس وكونه تحفة فنية معمارية تجسد تجليات القوطية التي سادت العالم في القرن الثاني عشر وحتى بداية القرن السادس عشر.

ولعله ما أضفى عليه مكانة ثقافية لدى مبدعي ومثقفي العالم انها  كانت لاعبا رئيسيا في رواية “أحدب نوتردام” لفيكتور هوجو. الذي كانت بطلة الفيلم الذي جسد القصة الفنانه اللبنانية المكسيكية سلمى الحايك و الذي ساهم زوجها لاحقا ب ٢٠٠ مليون يورو لإعادة ترميم الكاتدرائية

ولعل مشهد الصدمة التي اصابت العالم شرقا وغربا من هول الحريق الذي شب بالكاتدرائية ودمر جزءا منها، دفع دول العالم لاعلان تضامنه مع فرنسا للعمل على اعادة ترميمها، خاصة وانها مدرجة على لائحة منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (يونيسكو) للتراث العالمي منذ عام 1991، وتستقطب أضخم عدد من الزوار في اوروبا يربو علي 13 مليون سائح سنوياً.

تاريخ وصمود
شهدت كاتدرائية نوتردام الكثير من الأحداث التاريخية الكوارث والاحتجاجات والحروب، ففي عام 1548، دمرها الشغب ظنا من المشاغبين ان مميزاتها وثنية، وفي عهد لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر، خضعت الكاتدرائية للتعديلات الرئيسية كجزء من محاولة مستمرة لتحديث الكاتدرائيات في جميع أنحاء أوروبا.

وخلال الثورة الفرنسية، تعرضت لأضرار بالغة حيث انتهكت تماثيل القديسين على أيدي متهورين من المعادين للأديان، فقد كرست الكاتدرائية لـ”عبادة العقل”، ومن ثم لعبادة الكائن الأسمى، وخلال هذا الوقت دَمرت أو نُهبت العديد من كنوز الكاتدرائية، ولكنها صمدت بشموخ امام هذه الاحداث الجسام سواء كانت الثورة الفرنسية او الحربين العالميتن.

والمتأمل مجددا لسرعة استجابة العالم مع فرنسا تجاه هذه الكارثة، تعكس حقيقة ان الانسانية بطبعها مبجولة علي الخير وعلي عشق الجمال والحنين للماضي مهما عاش في فضاء الحداثة وما بعدها وتكنولوجياتها المعقدة.

فهذه الكارثة قد وحدت دول العالم التي تتصارع فيما بينها علي المصالح الاقتصادية والسياسية، فللحظة ما تناست الدول خلافتها ومطامحها وعدواتها بما لبعضها، خرجت المشاعر الجميلة للانسانية في تألفها وتعاضدها وتعاونها لانقاذ منجز بشري خلده التاريخ، فأعلنت جميعا وفي نفس واحد عن شعورها بفداحة الخسارة، واعلنت جميعا التضامن لاعادة الترميم والبناء.

ما أروع الانسانية اذا تخلت عن عنادها واطماعها وجبروتها، واستيقظ ضميرها وعادت لفطرتها في الحب والرحمة والتعاون. أظننا في هذه الحالة نكون في الجنة ننعم بظلالها الوافرة وضيائها المشرق ومائها العذب الرقراق.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى