أدب الأماكن

لبنان وطن ساحر يسكنني بحاضره وتراثه الفينيقي – الكاتبة سارة السهيل

يأخذني الحنين إلى تلك الشجرة لرائحة اللوز، ولثمر التين، لنبع يصب بردا وسلاما .. يأخذني الحنين إلى صوت جدي ينادي … آه يا لبنان .. بينما تنشد جدتي أحلى الأناشيد .

أشتاق لحنان جدتي وبراءتها وحكمتها كلما استمتعت لفيروز وهي تشدو: (ستي من فوق مافي زورها راحت عالعيد والعيد بعيد)، فتبحر ذاكرتي في الزمن الجميل حين تعرفت اول مرة على الجاردينيا، وسمعت اول مره شعرا حزينا لم أك سوى ابنة بضع سنين احلفكم بالله خذوا سلامي إليها فانا كنت اسقيها كل صباح واغني لها يا زهر الليمون ستي بتمون .

عندما أزور لبنان استدعي الطفولة ويستدعيني بيت جدي وتقبلني روح جدتي النقيه التي لم تحب شيء بالكون كما احبتني، وانا أيضا عندما يقولون الوطن إمرأة فأنا اختزل لبنان الشقيق بجدتي الحبيبة أرى بها الأرز الشامخ وجمال الورود وتغريد العصافير، أرى بها الحكمه والفطنة والذكاء وسرعة البديهه أرى بها حبها الخرافي لزوجها والوفاء، أرى بها العطاء والحنان الذي مازال مخزونا ويمنحني طاقة الحب والعطاء.

حينما أتحدث عن لبنان أجدني مأخوذة بحالة حب ووجد عبرت عنها فيروز في اغنيتها: كيف ما كنت بحبك بجنونك بحبك، وإذا نحنا إتفرقنا بيجمعنا حبك، وحبة من ترابك بكنوز الدنيي .

ثراء التنوع

كما يتنوع إبداع الطبيعة الكونية في صنع الخالق العظيم في لبنان، تتنوع أيضا التربة الفكرية والفنية والاجتماعية بين أبنائه، غيرأن هذا التنوع رغم ما يموج به من تناقض فريد إلا أنه يمثل نسيجا اجتماعيا مدهشا بفعل ما يتمتع به لبنان من حرية وانفتاح علي الآخر، خلق بداخله روحا خاصة نادرا ما تتواجد في بلد عربي علي هذا النحو.

وبالرغم من صغر مساحة لبنان إلا أن الطبيعة منحته ثراء في مناخه وأرضه، حيث يمتزج اللون الأزرق لبحره المتوسط، ببياض الثلوج فوق قمم جباله، كما يمتزج اللون الأخضر للمروج، مع الجبال الصخرية والوديان الساكنة التي تنساب في أحضانها مياه الأنهار وتتفجر من جنباتها الشلالات فتنمو غابات صنوبر وتترعرع  البسايتن ووتزين باشجار الكروم .

تأثير الحضارة

لعبت الحضارة القديمة ـ بما لا يدع مجالا للشك ـ في هذا الوطن دورها في جينات شعبه، فهو ابن الحضارة الفنيقية، وهو الذي اكتشف الحروف (الفينيقية) القديمة، لكنه تجاوزها إلي الانفتاح المبكر على الحضارات المجاورة، وكان لهذا الانفتاح دوره البارز في تباين الرؤي الافكار السياسية والدينية وأيضاالثقافية والفنية .

ولا غرابة إذن أن يجد كل زائر للبنان ضالته المنشودة، حيث تموج أرضه بالابداع الفكري والأدبي والفني، كما تموج بالثقافة الإسلامية حيث تمتلئ مساجدها وكنائسها بالمصلين والمؤمنين، بينما يجد الباحث عن الانطلاق فسحته في النوادي الليلية ودور السينما والمقاهي .

فن العمارة

لعل هذا المزيج البديع للحياة الاجتماعية والثقافية اللبنانية قد انعكس علي معطياتها السياسية، حيث تتنوع الاحزاب والتيارات السياسية، كما تتنوع البنايات الحديثة امام الطرز المعمارية التراثية المبنية بالحجر الصخري المقصوب, المكللة بقرميد، وهي مباني حافظت علي احترامها للطبيعة، وكم لبت  متطلبات العيش في أيام أجدادنا وأهلنا كما مدن بيروت, صيدا, جونية, عمشيت, دير القمر, المختارة, صاليما, دوما, وغيرها من المدن التي تحوي كنوزاً تراثية.

ويعد فن العمارة التراثية في لبنان شاهدا علي الحضارة القديمة وتمازجها خلال العديد من الحقب التاريخية حيث تتنوّع نماذج العمارة التقليدية بين القرن الرابع عشر والقرن العشرين.

ويربط المتخصصون بين هذا الإرث المعماري وبين التناغم مع الطبيعة  وعلاقتهما بالعلاقات والحياة الاجتماعية اللبنانية، فيقول المهندس فضل الله داغر في مقدمة كتاب “الإنسان, الأرض والحجر ¬ فن العمارة التراثية في لبنان”: ما زلنا نجد اليوم مجموعات قروية ومدينية تراثية محافظة على تماسكها. وهذا التراث, النابض بالحياة, والحامل في ثناياه ذاكرة شعب وأرض .

عشاق الطبيعة

يجد عشاق الطبيعة خاصة عشاق التزلج  بغيتهم في أشهر الشتاء ويستمتعون بتسلق قمم الجبال البيضاء، بينما يسمتع هواة التراث المعماري بمشاهدة العديد من المناطث التراثية مثل دير القمر التي يزين القرميد الأحمر أسقفها وجامع الأمير فخر الدين وقصور آل باز كما يستمتعون بجبال الأرز والصنوبر وروابي الجبل وهي تغطي الباروك .

ويحظي عشاق الأبراج والكنائيس القديمة بمشاهدة آثار منطقة عين زحلتا، البرج وكنيسة القديس نيقولا ودير القديس كيريلس ومناجم رمل الزجاج الأبيض وتأتي القمم الشاهقة المزينة بالثلوج وبغابة الأرز الخالد لتمتع عشاق الطبيعة، وهو الأرز الذي اتخذه الشعب اللبناني رمزا ” وشعارا” لخلوده وصموده.

أما منطقة الحازمية ، فتضم أطلال رومانية أقيمت فوق مجرى نهر بيروت فتهدم بعضها ولم يبق منها إلا بعض القناطر تعرف باسم  قناطر زبيدة.

في حين تحظي منطقة قرطبا بالكتابات المنقوشة التي تعود إلى العصر الروماني، ومثلها منطقة العاقورة وهي بلدة أثرية غنية بالكتابات والنقوش التي تعود إلى العصر الروماني ، كما تضم طريقا رومانية وكنائس قديمة.

وتعدد مصايف لبنان ومنها مصيف حمانا الذي يرتبط اسمها باسم الشاعر الفرنسي لامارتين الذي زارها ووصف قصر المقدمين وصفا رائعا وصنفه في المرتبة الثانية بعد قصر الأمير بشير الشهابي في بيت الدين.

أما “فالوغا” فقد كانت  مقرا  للأمراء، وتعتبر مركزا مهما لعمال الحرير. منها تنبع عين الصحة التي أصبحت مياهها شهيرة في العالم. ومثلها قرنايل التي كانت مركز الأمراء. ومن أهم منتزهاتها عين البستان في غابات الصنوبر.

بينما تمتاز “شملان” بمناظر خلابة وتكثر فيها المنتزهات بين غابات السنديان والصنوبر، وهي مشهورة بزراعة التوت وتربية دودةالحرير .أما مصيف “عيناب” فيشتهر ببيوته القديمة وهوائه العليل.

ومن المناطق التراثية الجميلة “بيت مري” التي كانت قديما” مركز عبادة الإله الفينيقي بعل مرقد الذي أقيمت على أنقاضه كنيسة البلدة في القرن الثامن عشر وما تزال بعض أعمدته قائمة في موضعها وتعود الآثار العديدة المكتشفة فيها الى أيام الرومان والبيزنطيين . وعلى مقربة من حمامات البلدة الأثرية كنيسة بيزنطية أرضيتها مرصوفة بالفسيفساء .

إن لبنان يسكنني كما سكن قلب جدتي، وطن حاضر بقلبي غني بإبداع الخالق فيه ويظل نابضا بالجمال وكما يتجلي سحر الطبيعة، يتجلي أيضا إبداع الفنانين والشعراء والمفكرين الذين صدروا إبداعهم في العالمين العربي والغربي علي حد سواء فهاهي أصوات فيروز والشحرورة صباح ونور الهدى وسعاد محمد ونجاح سلام، ووديع الصافي تغزو العالم العربي.

وعبقرية الطبيعة اللبنانية أنجبت كبار الموسيقيين مثل عاصي ومنصور الرحباني، اللذين شكلا الهوية اللبنانية عبر الفلكلور وتتوالي أجيال عباقرة  الموسيقي مثل زكي ناصيف وتعبيره عن الضيعة، وزياد الرحباني وعبقريته في الموسيقى الغربية خاصة الجاز، الموسيقار فليمون وهبة، وتوفيق الباشا، ومارسيل خليفة، وملحم بركات .. وغيرهم.

كما صدرت لبنان شعراءها ومفكريها وكتابها لكل مكان في العالم من خلال شعراء الرابطة القلمية مثل جبران خليل جبران صاحب الأنشودة الخالدة:

“ليس في الغابات حزنٌ لا ولا فيها الهمومْ

فإذا هبّ نسيمٌ لم تجىءْ معه السمومْ

ليس حزن النفس الاَّ ظلُّ وهمٍ لا يدومْ

وغيوم النفس تبدو من ثناياها النجومْ

أعطني الناي وغنِّ فالغنا يمحو المحنْ

وأنين الناي يبقى بعد أن يفنى الزمنْ”

وايليا ابو ماضي الذي ظل يدعو إلى التواضع فقال:

“ألا أيها الابريقُ ما لكَ والصلفْ فما أنتَ بلورٌ ولا أنتَ من صَدَفْ وما أنتَ إلا كالأباريق كلها ترابٌ مَهينٌ قد ترقّى إلى خزَفْ”،

وميخائيل نعيمة الذي أعلن طمأنينته للدنيا وتحداها أن تنال من هذه الطمأنينة:

“سقف بيتي حديد** ركن بيتي حجر فاعصفي يا رياح ** وانتحب يا شجر واسبحي يا غيوم ** واهطلي بالمطر واقصفي يا رعود ** لست أخشى خطر بـــــاب قـــــلبي حــــــصين * مـــــن صنوف الــكدر”

وسعيد عقل الذي تغنى بحب لبنان ملء قلبه وقلمه فقال:

“من أين يا ذا الذي استسمته أغصان من أين أنت فداك السرو والبان إن كنت من غير أهلي لا تمرّ بنا أو لا فما ضاق بإبن الجار جيران ومن أنا لا تسل سمراء منبتها في ملتقى ما ألتقت شمس وشطآن لي صخرة علقت بالنجم أسكنها طــــارت بها الكـــتب قــالت تلك لبـــنان”.

وأنسي الحاج صاحب التناقضات الأجمل الذي قال:

يوم ولدتِ كنتُ كبيراً. أمسِ كنت صغيراً يومَ كبَرتِ. ولولا الضوء لما رأيتُ من عمري سوى الرعشة. صغيراً كالبداية، وأنتِ كبيرةٌ ككلّ ما يجعل النهايات تبدأ من جديد.

أنتِ لسوايَ، ككلّ مَنْ أحْبَبْتُ. لسوايَ، ككلّ ما هو لي.

هذا لبنان الذي تمتع طوال تاريخه بعبقرية المكان وإنسانية الإنسان.

هذا البلد من صنع الله الذي أتقن كل شئ خلقه، هل يستحق من ساسته وزعمائه ما مر به من أزمات على مر عقود من الزمن وحروب اهليه ونزاع على السلطة وتناحر لا يمت لمطالب الشعب بصلة من قريب او بعيد؟ ها نحن نتابع ما يجري الان في ساحات لبنان الذي تظاهر من اجل النظافة هاهو البلد الجميل الموصوف بالاناقة والموصوف شعبه بحبه للنظافة والجمال تثيره قذارة شوارعه بعد انتشار النفايات في شوارع البلد، فهل ثار اللبنانيون من اجل قذارة النفايات ام من اجل نظافة يرتجونها من الحكومة والزعماء؟ فهل هي رائحة النفايات التي فحت ام روائح الفساد؟ هكذا وطن يستحق ان يحبه ابناؤه ويحافظون عليه بعيدا عن الظنون التي تراودني ورائحة المؤامرة لتقسيم وتفكيك لبنان انطلاقا من التضييق على الشعب بأمر لا يطيقه اللبنانيون (النظافة) اعداؤنا دارسون لنفسياتنا ويدركون في كل بلد كيف يؤججون الفتن فلكل شعب طابع مختلف، واتمنى ان لا يقع لبنان بفخ المخطط الذي يزور بلادنا العربية والشرق أوسطية بلداً بلداً ويستوطن بها الدمار الذي يسبق التقسيم .اكثر ما يحزنني التقسيم الذي يصدقه الناس فتنقسم بقلوبهم الرحمة بين هذا مني وذاك عليّ بعد ان كانوا قلبا واحدا. فماذا بعد تفريق القلوب الا تقسيم الشعوب وبناء السدود بين الحدود؟ فاسمعوا وعوا!

*سارة طالب السهيل كاتبة عراقية من أم لبنانية، مقيمة في بغداد ولها عشرات المؤلفات معظمها روايات للأطفال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى